المطران خيرالله في عيد مار يوحنا مارون: أكثر ما نحتاج اليوم الى قديسين لا إلى رؤساء وسلاطين

احتفلت أبرشية البترون المارونية بعيد شفيعها البطريرك الاول للموارنة القديس يوحنا مارون، بقداس احتفالي في الكرسي الأسقفي في دير مار يوحنا مارون في كفرحي ترأسه راعي الأبرشية المطران منير خيرالله بمشاركة راعي أبرشية إنطلياس المطران أنطوان بو نجم والنائب العام في أبرشية البترون المارونية المونسنيور بيار طانيوس وفي حضور رئيس تجمع “موارنة من أجل لبنان” المحامي بول كنعان، رئيسي بلديتي كفرحي جورج عقل وبيت شلالا اسعد النخل، رئيس المجلس العام الماروني ميشال متى على رأس وفد وأعضاء من الرابطة المارونية، رئيس الاتحاد الدولي للمحامين المحامي أنطوان عقل ومختارين من قضاء البترون وعدد من الكهنة وفاعليات وشخصيات وحشد من المؤمنين.
العظة
وبعد تلاوة الإنجيل المقدس، ألقى المطران خيرالله عظة بعنوان “أنتم ملحُ الأرض، أنتم نور العالم”، قال فيها: “نعيّد معًا اليوم، في عودة إلى جذورنا الروحانية والتاريخية والكنسية، مار يوحنا مارون البطريرك الأول ومؤسس الكنيسة البطريركية المارونية ومطلق مسيرتها من هنا، من كفرحي، في رسالة النسك والحرية والانفتاج طاعةً لدعوة الرب يسوع المسيح إلى أن يكون أبناؤها “ملحَ الأرض ونور العالم”. لقد دخلنا منذ بضعة أيام زمن الصوم الكبير الذي يدعونا فيه يسوع المسيح “إلى أن نصعد إلى جبلٍ عالٍ لكي نعيش خبرة زهدٍ خاصة، فنتغلّب على نقص إيماننا وعلى مقاومتنا لاتّباعه في مسيرة الصليب”، كما يقول قداسة البابا فرنسيس في رسالة الصوم. هذا ما فعله أبونا الروحي مار مارون منذ أكثر من ألف وستماية سنة، إذ اختار أن يلبّي دعوة المسيح فزهد في العالم وتسلّق قمم جبال قورش، قرب أنطاكية الجريحة اليوم جرّاء الزلزال المدمّر، وراح يعيش حياة نسكية يقضي فيها أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف والوقوف المستمرّ ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي أحبّها وتعلّق بها. وراح تلاميذه من بعده يضاهونه في عيش الروحانية النسكية التي وضع أسسها. ومنهم من بقوا في سوريا وجمعوا الناس حولهم وبنوا الأديار، وكان أكبرها دير مار مارون على ضفاف العاصي، ومنهم من قصدوا جبال لبنان سالكين مجرى نهر العاصي، وهو النهر الوحيد العاصي على الطبيعة، بعكس مساره، واستوطنوا جرود جبيل والبترون وجبّة بشري، وحملوا اسم “شعب مارون” وتكّنَّوا “ببيت مارون”، كل ذلك من أجل حمل الرسالة المسيحية وتبشير الفينيقيين ودعوتهم إلى الإيمان بالإله الواحد وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار”.
أضاف: “اختاروا المجيء إلى جبل لبنان “لأنه الجبل الذي يسكن فيه أولياء الله تلبيةً لدعوةٍ منه”، كما يقول البطريرك اسطفان الدويهي، وقد “أتوه نساكًا ومرسَلين لا لاجئين وفاتحين” كما يقول الأب يواكيم مبارك. إلى أن أتى يوحنا مارون في أواخر القرن السابع وأسس الكنيسة البطريركية على إسم مارون، ونظّمها كنسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وأمّن لها استقلالاً ذاتيًا في قلب الكنيسة الانطاكية وضمن نطاق الدولة العربية الإسلامية. ما سهّل للموارنة أن يبنوا عالمهم الخاص في جبل لبنان ولكن من دون أن يتقوقعوا على ذاتهم أو أن يتعدّوا على الآخرين. واتّبعوا بعد يوحنا مارون مقوّمات روحانيتهم النسكية وعاشوا في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان زاهدين في العالم وملذاته وإغراءاته ومتحمّلين على مرّ الأجيال أشق العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على ثوابتهم الأربعة الغالية، أي: الحرية في عيش إيمانهم بالله والتعبير عن آرائهم، التعلّق بأرضهم المقدسة التي سقوها من عرق جبينهم، الارتباط بشخص البطريرك، رأسهم الواحد وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم وضامنها وحبّ الثقافة والعلم، ما سمح لهم بالانفتاح على الشرق والغرب”.
وتابع: “لقد ارتضى الموارنة، في تبنّيهم الحياة النسكية بعد مار مارون ومار يوحنا مارون، أن يخوضوا المغامرة حتى النهاية مع المسيح، الذي يدعوهم باستمرار، كما دعا بطرس ويعقوب ويوحنا، للصعود إلى جبل التجلّي ليذوقوا طعم الملكوت ثم ينزلوا إلى العالم ليقبلوا التضحية بالذات تشبّهًا بالمسيح على الصليب، لأن روحانيتهم النسكية هي روحانية الصليب، وفهموا أن التضحية بالحياة ليست خسارةً لها بل هي على العكس ربح جديد لها بقدر التضحية بها لأنها إلى القيامة صائرة، وكانوا يقصدون “الارتفاع حيث يشخص نظرهم إلى ذلك الجبل الذي أراده الله لهم موطنًا” كما يقول الأب ميشال الحايك، كي يكونوا في علاقة روحية عمودية معه. فحملوا صليبهم مع المسيح وراحوا يرتفعون به صعودًا حتى التضحية بالذات، حتى الارتقاء إلى الله”.
وتوجه المطران خيرالله إلى أبناء مارون بالقول: “نحن مدعوون اليوم إلى الزهد في العالم فيما نحن نعيش في العالم ونواجه تحدياته، إلى الارتقاء إلى الله وإلى جبل الله حيث يسكن أولياؤه قديسونا ونساكنا وإلى قبول التضحية في سبيل خدمة الإنسان والخير العام. نحن مدعوون إلى فعل توبة صادق نطلب فيه المغفرة من الله ومن بعضنا البعض على كل الانتهاكات التي اقترفناها بحق الله والقريب وبحق وطننا لبنان. نحن مدعوون أولاً وآخرًا إلى القداسة، لا إلى الرئاسة. في تاريخنا لم نكن يومًا طالبي رئاسات، بل مشاريع قداسة. فالرئاسات عابرة أما القداسة فهي حالُ مَنْ يتّحد بالله، الحبّ المطلق والأبدي. نحن نحتاج اليوم، أكثر ما نحتاج إلى قديسين، لا إلى رؤساء وسلاطين”.
وتوجه أيضا إلى السياسيين، “أبناء مارون أولاً ولبنانيين ثانيًا” بالقول: “دعوتي إليكم اليوم أن تتكوكبوا حول شخص البطريرك وتجدوا في بكركي مساحة مفتوحة للحوار الصادق والصريح وغير المشروط، فتتفّقوا على مشروع لبنان الغد، دولةٍ حديثة، دولةِ المواطنة التي تساوي اللبنانيين في ولائهم للوطن قبل ولائهم للطائفة، كما أرادها البطريرك الياس الحويك، وطن العيش الواحد المشترك في الحرية والكرامة واحترام التعددية، كما قال عنه القديس البابا يوحنا بولس الثاني”.
وختم: “أعطنا يارب، في عيد مار يوحنا مارون وفي مسيرة الصوم، أن نعود إليك تائبين، وأن نبقى ثابتين، وأن نواجه تحديات الزمن برجاء مبين، فنستحق منك مكافأة العبيد الصالحين، ونُحصى مع أوليائك القديسين. آمين”.
متى
وبعد القداس، ألقى ميشال متى كلمة، قال فيها: “نلتقي اليوم في عيد مار يوحنا مارون البطريرك الاول للموارنة، مؤسس ومنظم الكنيسة المارونية، ومكرس دور البطريرك الماروني عبر التاريخوحتى اليوم في قيادة وجمع الموارنة وحثهم على المقاومة التي امتدت عبرالتاريخ واستشهد الآلاف تعلقا بلبنان. هذا ما جعل الموارنة شعبا صامدا وسيدا، فأنشأوادولة لبنان الكبير، ووصلوا الى حكمها. مار يوحنا مارون هو أول من أعطي مجد لبنان، وتوالى بعده البطاركة على حمل هذه المسؤولية بجدارة وايمان، سائرين على نهجه ومتبعين خطاه الثابتة في نصرة المسيحيين وترسيخ وجودهم. ونكمل المسيرة مع نيافة الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي الكلي الطوبى. هذا هو واقع الحال اليوم، ان يعيد التاريخ نفسه، وكأنه قدر المسيحيين في كل الأزمنة والحقبات أن يجدوا نفسهم في مقاومة دائمة ومستمرة دفاعا عن وجودهم وارضهم وعقيدتهم”.
كنعان
بدوره، قال بول كنعان: “هذا العام أيضاً، نلتقي في رحاب هذا الدير، ببركة سيادة راعي الأبرشية المطران منير خير الله، لنحيي هذا التقليد السنوي الذي اعتدنا عليه كتجمّع موارنة من أجل لبنان، لنحتفل بعيد بطريركنا القديس مار يوحنا مارون، الذي تحوّلنا معه من مجرّد جماعة، الى أمّة وشعب، متمسّك بإيمانه، ثابت في أرضه، عنيد في قناعاته، ورسالة حرية في الشرق والعالم. نلتقي وإياكم يا أحباءنا شعب مارون، ولبنان يعيش لا مجرّد شغور رئاسي، بل أزمة كيانية تهدّد ما فيه من تاريخ وهوية، بعدما استفحلت الأزمات، فهدّمت ركائز بنيان الوطن. لقد اختبرنا القوة في المعارضة والموالاة، فكان الفشل الكبير، لأن مصالح الأفراد طغت على مصلحة الجماعة والوطن. لذلك، نريد رئيساً لبنانياً يؤمن بلبنان ويستمد قوّته من حياده، ويرفع شعار”لا شرق ولا غرب ولا فرس ولا سواهم”. بل يكون على علاقة جيدة مع الجميع، من اجل لبنان”.
اضاف: “يعود لبنان قوياً، برئيس صاحب خبرة، وتعود الجمهورية قوية، برئيس آدمي، يأتي ليخدم ويطوّر، ولا ينسى أن قوة لبنان، من قوة الموارنة فيه، وأن بكركي بوصلة ديمومة هذا الوطن واستمراريته بتعدديته ورونقه ودوره وريادته وحضوره الفاعل. علينا ان نثق أن الأوان لم يفت بعد للنهوض، شرط ان نفكّر بعقلية رجال دولة لا أولاد مصالح وحسابات صغيرة. فنعيد وصل ما انقطع بين الجماعة المسيحية، لتكون لها رؤية استراتيجية واضحة، لوحدة وطنية فاعلة وراسخة وثابتة، ليعود لبنان الدولة والمؤسسات”.
بعد ذلك التقى الجميع في صالون الدير لتبادل التهاني بالعيد ثم شاركوا بمأدبة غداء بالمناسبة.
** مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
Comments are closed.